كنت في السابعة من عمري عندما رافقت أخي الأكبر على متن عربتنا الحديديّة التي يجرّها حصاننا المدلّل (والذي أحبّه أخي أكثر ممّا أحبّني) إلى أرضنا الرّابضة قرب مقبرة البلدة، لننقل التّبن بعد موسم حصاد أبهج والدي وكل رجال القرية. كان ذلك صبيحة يوم صيفيّ متلألئ، ما إن لاحت شمسه في الأفق حتى اشتعلت الحرارة في كل شيء، وكأنها نار موقدة في سماء القرية. جلست بجانبه مزهوّة باصطحابه لي دونا عن إخوتي، وأنا أتحسّس المقعد الحديدي الذي يهتزّ بي كلّما أسرع الحصان تحت تلويحات أخي بيده في السّماء بسوط لا يضربه به أبدا.. أجول بنظراتي هنا وهناك حيث الحقول الصّفراء تمتد في كل الاتّجاهات مثل الزّرابي على جنبات الطريق، والنسيم ينعش أنفاسي ويتلاعب بشعري المنكوش فوق جبهتي وأذنيّ، كانت تلك واحدة من أكثر لحظات حياتي سعادة..
عند وصولنا نزلت بحذر، ثم طلب مني أخي أن أجلس في ظلّ العربة وأراقب الحصان وقد انطلق بالجوار يلتقط الكلأ بأناقة بشفتيه الكبيرتين، بينما ذهب أخي ليجمع القشّ الذي نثرته ماكينة الحصاد على شكل خطوط مستقيمة، ليشكّل منه أكواما هرميّة متفرّقة.
جلست قبالة المقبرة ورحت أتأمّل جمال المقابر المصطفّة أمامي، والخضرة تعلوها زاهية كأصص حديقتنا، كنت أنظر إليها في إعجاب وألفة ولم أشعر بالخوف، حتى مع كل تلك القصص التي يحكيها لنا والدي ليلا عن الجنّ الذي يسكن الضّريح القابع أعلى التلّة المحاطة بالأموات النائمين وقد صعدت أرواحهم إلى السماء. ولولا خوفي من أخي الذي كلّفني بعدم الابتعاد عن العربة، لرحت أقطف زهور "خدوج الخانزة" الحمراء من فوق ذلك القبر الكبير المزين بالزّليج، لأزيّن بها أظافر يديّ، بعدما أبلل وريقاتها الصغيرة المستطيلة باللّعاب، وألصقها بشكل محكم، وكأنّها أظافري الطويلة المصبوغة بلون أحمر.
عاد أخي بعدما أنهى عمله الأوّلي، حملني ووضعني على العربة وأمسك بلجام الحصان متجها للأكوام التي أحسن تشكيلها، وبخفّة بدأ يرفع المذراة محمّلة ويضعها بقلب العربة، قفزت فوق القشّ وبدأت أوزّعه بجوانب العربة بيديّ ثمّ برجليّ، فضحك أخي وقال: "لم أتوقع أن تساعديني هكذا!" وأحسست أنّ ذلك أشعره بحماس انتقلت عدواه إليّ. ما إن يسقط التبن أمامي وحواليّ حتى أقفز فوقه وأوزعّه بنشاط. شيئا فشيئا صرت أرتفع وقد كبرت أكوام التبن تحت قدميّ وأنا ألهث متقافزة، بدأت أشعر بالقيظ الشّديد وقد جفّ حلقي من العطش وتعبت من النّط، والشمس تلهب وجهي وشعري الذي غطّته قشّات التبن، قلت لأخي إنّي أشعر بالحرّ، وقد اغرورقت عيناي بالدّموع بعدما أجهدتني المكابرة، قال لي وقد مال رأسه إلى الوراء من الضّحك، أنّني ارتفعت حتى صرت أقرب للشّمس من كل الكائنات على الأرض، ولذلك أشعر بحرّّها أكثر، شعرت بخوف شديد وحنق من ضحكه المدوّي فصرخت فيه: أنزلني..
ترك المذراة من يده بعدما رأى دموعي وتوقف عن الضّحك، اقترب من العربة ومدّ ذراعيه قائلا: "اقفزي وسألتقطك بيدي". لكنّني خفت وبدا لي أن المسافة التي تفصل بيني وبينه طويلة جدّا، وأنّني أطلّ على يديه من علوّ شاهق، إذا قفزت من أعلاه سأغرق في هوّة سحيقة، فأنّا لأخي أن يمسكني وهو هناك في القعر؟..
تعب أخي من حثّي على القفز وأنا هناك بالأعلى أبكي وأختنق من الخوف والحرّ، فتملكّه غضب وضيق. ثم ما لبث أن قال لي مطمئنا: "حسنا لا تقفزي، لكن انزلقي برجليك أولا وسوف أمسك بهما وأساعدك على النزّول". رضخت لطلبه وقد بدا لي ذلك أسهل، مددت رجليّ وأنا أتشبّث بالقشّ. ولكن قبل أن تصل يداه إليّ تدحرج جسدي بكامله وسقطت على مقدّم العربة، ولم أعلم ما الذي حدث بعد ذلك حتى استفقت بين يديه، وبي ألم شديد بمؤخّرة رأسي.
حملني ووضعني على المقعد، وقد بدأ الخوف الذي اعتلى وجهه يتبدّد، نظر إليّ مبتسما وأنا أتحسس مؤخرة رأسي حيث تكونّت كويرة بحجم برقوقة تحت أصابع يدي، وأمسح دموعي بكمّ يدي الأخرى.
ربط الحصان إلى العربة وجلس بجانبي، وقال وهو يرفع السّوط إلى الأعلى معلنا رحلة العودة من دون أن ينظر في اتجاهي: "لو أنني صعدت فوق هذا المقعد لحملتك بسهولة ولما سقطت، لكن.. يبدو أنني كنت غبيّا لحظتها"، ثم أضاف وقد مال بكلّيّته إليّ: " وأنت؟.. أنت لم تكوني بالشجاعة التي حسبتك عليها".
عند وصولنا نزلت بحذر، ثم طلب مني أخي أن أجلس في ظلّ العربة وأراقب الحصان وقد انطلق بالجوار يلتقط الكلأ بأناقة بشفتيه الكبيرتين، بينما ذهب أخي ليجمع القشّ الذي نثرته ماكينة الحصاد على شكل خطوط مستقيمة، ليشكّل منه أكواما هرميّة متفرّقة.
جلست قبالة المقبرة ورحت أتأمّل جمال المقابر المصطفّة أمامي، والخضرة تعلوها زاهية كأصص حديقتنا، كنت أنظر إليها في إعجاب وألفة ولم أشعر بالخوف، حتى مع كل تلك القصص التي يحكيها لنا والدي ليلا عن الجنّ الذي يسكن الضّريح القابع أعلى التلّة المحاطة بالأموات النائمين وقد صعدت أرواحهم إلى السماء. ولولا خوفي من أخي الذي كلّفني بعدم الابتعاد عن العربة، لرحت أقطف زهور "خدوج الخانزة" الحمراء من فوق ذلك القبر الكبير المزين بالزّليج، لأزيّن بها أظافر يديّ، بعدما أبلل وريقاتها الصغيرة المستطيلة باللّعاب، وألصقها بشكل محكم، وكأنّها أظافري الطويلة المصبوغة بلون أحمر.
عاد أخي بعدما أنهى عمله الأوّلي، حملني ووضعني على العربة وأمسك بلجام الحصان متجها للأكوام التي أحسن تشكيلها، وبخفّة بدأ يرفع المذراة محمّلة ويضعها بقلب العربة، قفزت فوق القشّ وبدأت أوزّعه بجوانب العربة بيديّ ثمّ برجليّ، فضحك أخي وقال: "لم أتوقع أن تساعديني هكذا!" وأحسست أنّ ذلك أشعره بحماس انتقلت عدواه إليّ. ما إن يسقط التبن أمامي وحواليّ حتى أقفز فوقه وأوزعّه بنشاط. شيئا فشيئا صرت أرتفع وقد كبرت أكوام التبن تحت قدميّ وأنا ألهث متقافزة، بدأت أشعر بالقيظ الشّديد وقد جفّ حلقي من العطش وتعبت من النّط، والشمس تلهب وجهي وشعري الذي غطّته قشّات التبن، قلت لأخي إنّي أشعر بالحرّ، وقد اغرورقت عيناي بالدّموع بعدما أجهدتني المكابرة، قال لي وقد مال رأسه إلى الوراء من الضّحك، أنّني ارتفعت حتى صرت أقرب للشّمس من كل الكائنات على الأرض، ولذلك أشعر بحرّّها أكثر، شعرت بخوف شديد وحنق من ضحكه المدوّي فصرخت فيه: أنزلني..
ترك المذراة من يده بعدما رأى دموعي وتوقف عن الضّحك، اقترب من العربة ومدّ ذراعيه قائلا: "اقفزي وسألتقطك بيدي". لكنّني خفت وبدا لي أن المسافة التي تفصل بيني وبينه طويلة جدّا، وأنّني أطلّ على يديه من علوّ شاهق، إذا قفزت من أعلاه سأغرق في هوّة سحيقة، فأنّا لأخي أن يمسكني وهو هناك في القعر؟..
تعب أخي من حثّي على القفز وأنا هناك بالأعلى أبكي وأختنق من الخوف والحرّ، فتملكّه غضب وضيق. ثم ما لبث أن قال لي مطمئنا: "حسنا لا تقفزي، لكن انزلقي برجليك أولا وسوف أمسك بهما وأساعدك على النزّول". رضخت لطلبه وقد بدا لي ذلك أسهل، مددت رجليّ وأنا أتشبّث بالقشّ. ولكن قبل أن تصل يداه إليّ تدحرج جسدي بكامله وسقطت على مقدّم العربة، ولم أعلم ما الذي حدث بعد ذلك حتى استفقت بين يديه، وبي ألم شديد بمؤخّرة رأسي.
حملني ووضعني على المقعد، وقد بدأ الخوف الذي اعتلى وجهه يتبدّد، نظر إليّ مبتسما وأنا أتحسس مؤخرة رأسي حيث تكونّت كويرة بحجم برقوقة تحت أصابع يدي، وأمسح دموعي بكمّ يدي الأخرى.
ربط الحصان إلى العربة وجلس بجانبي، وقال وهو يرفع السّوط إلى الأعلى معلنا رحلة العودة من دون أن ينظر في اتجاهي: "لو أنني صعدت فوق هذا المقعد لحملتك بسهولة ولما سقطت، لكن.. يبدو أنني كنت غبيّا لحظتها"، ثم أضاف وقد مال بكلّيّته إليّ: " وأنت؟.. أنت لم تكوني بالشجاعة التي حسبتك عليها".
2 التعليقات:
شكرا لكي على هذا السرد الجميل الذي سافر بي الى عصر سحيق و أفاق في ذكريات جميلة جدا في طفولتي. التي لولا سردك هذا ماظننتني اتذكرها ابدا.
شكرا لكي ... واصـــــــــــــــــلي
شكرا لكي على هذا السرد الجميل الذي سافر بي الى عصر سحيق و أفاق في ذكريات جميلة جدا في طفولتي. التي لولا سردك هذا ماظننتني اتذكرها ابدا.
شكرا لكي ... واصـــــــــــــــــلي
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع