من لا يعرف الخالة رحمة؟ رحمة بنت العياشية، منبع الرحمة و الحنان لأطفال القرية الذين يمرون أمام بيتها صباح مساء في طريقهم إلى المدرسة البعيدة، تمدهم بشربة ماء، و قطع الخبز المشبع بزيت الزيتون، أو حبات السكاكر و الفواكه... رحمة التي تعتني بكل شيء، و بكل الناس. كانت هناك دائما، تحنو على المحتاجين من جيرانها، تساعد النسوة في إعداد ولائمهن المختلفة، تزين العرائس و تحكي قصص الأجداد للأحفاد... من لا يحب حديقة الخالة رحمة التي تبدو مثل جنة صغيرة أمام بيتها.
أسكن وحدي في هذا البيت الفسيح، لا شيء يتغير في حياتي الرتيبة سوى عمري الذي يزيد أو ينقص؟ لست أدري، سأبلغ عقدي الخامس بعد سنتين، سأعيشهما بنفس الرتابة إن قُدِّر لي، و كذلك سأعيش ما بعدهما.. لقد بدأ الشيب يغزو شعيرات رأسي، و بدأت تقاسيم وجهي تختفي وراء التجاعيد التي تحفر أخاديدها حول عينيَّ و فمي و على جبهتي... هذا هو التغيير ربما.
رحمة هي أولى بنات امِّي العياشية الأربع، كانت تعيش رفقة أمها بحيث لا تفترقان أبدا، كالجسد و ظله، إلى أن توفيت العياشية قبل أربع سنوات فبقيت رحمة وحيدة في تلك الضيعة الكبيرة، تشرف على كل ملمتر منها و ترعى ما فيها من زرع و أشجار و حيوانات... أما أخواتها الثلاث فكل واحدة تعيش خارج القرية مع زوجها و أولادها، و لا يجتمعن في البيت الكبير إلا أياما معدودات في العطلة الصيفية.
كنت صغيرة أكتشف الحياة من حولي، لكن غير بعيد عن أمي، فمنذ أن توفي والدي (و أنا لم أبلغ العاشرة بعد) صرت ذراعها اليمنى و ظلها الذي لا تتحرك من دونه، لم ألج المدرسة و لم يكن لي حتى حق الحلم بذلك، تعلمت كل الأشغال داخل البيت و خارجه و كنت مسؤولة عن كل شيء كما لو أنني الإبن الأكبر، رغم معالم أنوثتي التي بدأت تميزني عن أخواتي الصغيرات، خضت حربا مع أمي بشتى أساليب الحوار و الحيلة حتى أقنعتها بتسجيل أخواتي في المدرسة، كانت سعادتي لا توصف يوم رافقتها لتسجيل أختي عيشة رغم تجاوزها السن القانوني بعامين، و أختي رقية التي كان عمرها سبع سنوات حينها. أما سميرة فقد كانت آخر العنقود، المدللة التي لا يرفض لها طلب. لقد كنا أربع بنات لا ذكر بينهن، قدر أمي أو نحسها كما تقول في أشد ساعات غضبها، كانت تحضننا مثل دجاجة تخشى على كتاكيتها من كل حس غريب، ترك لنا والدي ثروة طائلة و أراض شاسعة و ضيعة كبيرة يتوسطها البيت الذي لم أغادره منذ ولادتي، كنا محط أطماع الجميع تقول أمي بامتعاظ، لم أفهم قولها إلا بعدما تقدم لي أول عريس فرفضته من دون نقاش، يظن أني سأصدق أنه ينوي مصاهرتي هكذا لله، لو لم يعمه الطمع لما طرق بابي، تقول أمي لعمتي حليمة و أنا أنصت من خلف الباب، شيئا فشيئا صار خوف أمي علينا أقرب إلى الوسواس، لا يمر يوم من دون أن تذكرنا أن الطمع في ثروتنا و إرثنا هو ما يدفع الناس إلى التقرب منا و بشكل أكثر تأكيدا ؛ هو ما يدفع الرجال إلى التقدم لخطبتي، رفضت العريس الثاني و الثالث من دون أن تتجشم يوما عناء مشورتي، كنت أسهر غير مبالية على راحة أخواتي، أراقب تفوقهن في صفوفهن الدراسية و أتعلم معهن ما استطعت، صرت أحسن القراءة و تعلمت كتابة بعض الحروف، كنا أول من امتلك جهاز تلفزيون بالأبيض و الأسود بين سكان القرية فكانت سعادتي كبيرة، لولا نظرات الشفقة التي صرت أراها في عيون قريناتي حين يأتين إلى بيتنا من أجل مشاهدة مسلسل يبث كل مساء، يأتين برفقة أولادهن الصغار و قد حضرت أعراسهن كلها و عرسي لم يحن بعد.
كان غريبا عن القرية لا يعرفه أحد، يعمل عند أحد الأعيان سائسا للخيل، و يسكن عنده في بيت صغير بالضيعة كما تتناقل الأخبار، يمر كل مساء قبل غروب الشمس بقليل بجوار بيتنا ممتطيا أحد الخيول، يختلس النظر إلي من بعيد فيقفز قلبي من موضعه، نعم لقد أحببت، و ما كنت أعرف ما الحب غير ما كنت أسمعه من أخواتي أو ما أراه في المسلسلات التلفزية، تغيرت حالي و صرت شاردة الذهن طوال الوقت، لم تجمع بيننا سوى تلك النظرات المسروقة و كثير من المشاعر كنت أحسها متبادلة، أرسل إحدى جاراتنا لتكلم أمي عن رغبته في الزواج بي، فكانت تلك أول مرة يعنيني هذا الأمر و أتطلع بخوف و شوق إلى ردها، "أوَ أرفض زواجها من القريب ثم أقبل هذا الغريب؟، لست العياشية إذن لو فعلت، يريد أن يدخل كالسوسة بين بناتي لينصب عليهن و يعود من حيث أتى، و الله لا كانت له" .. أقسمت بأغلظ أيمانها أن تتسبب في طرده من عمله إن لم يلزم حده، و طلبت من مشغله أن يمنعه من المرور أمام بيتنا و لينزه خيله في أي مكان آخر فأرض الله واسعة، تجرأت لأول مرة و قلت لها أنني أريده، بكيت و لم أتمالك نفسي و أنا أنبهها أني أشرفت على الثلاثين من عمري و أن قافلة الزواج تتجاوزني، قالت أنها تعرفهم جميعا أكثر مني و أنها الأدرى بمصلحتي و أشياء كثيرة طالما سمعتها...
كانت عيشة تحب زميلها في الكلية و تحدثني عنه، أراد أن يتقدم لخطبتها، و لأننا نعرف جواب أمي مسبقا فقد كان الأمر مستحيلا، خططت للأمر و لم تخبر أحدا إلا و هي تستعد من أجل إكمال دراستها خارج البلاد، تزوجا هناك زواجا مدنيا، و عند زيارتنا في العطلة وضعت أمي أمام الأمر الواقع فسكتت.
بدأت أمي تتعب و صرت أنا كبيرة البيت و تجاوزتني القافلة.
تزوجت أختاي، رقية من زميلها في العمل و سميرة من ابن جيراننا المهندس الذي أحبته منذ صغرها، سعدت لسعادتهن و ألفت وحدتي مع أمي المقعدة بعد أن غادرننا جميعا، أعتني بأزهار حديقتي و كأنها جزء مني، أشرف على محاصيل الأرض و صحة المواشي و أراقب العمال بالضيعة و لا يفوتني شيء، أتلقى مكالمات أخواتي و نسهر كل ليلة ندردش و نضحك، أعتني بأبنائهن في العطل و أساعد جاراتي في أفراحهن و أتراحهن. أراد أحدهم أن يتزوجني في ذلك السن و كان معروفا بعينيه الزائغتين و حبه للمال و كان قد طلق زوجته الأولى، طلبت مني أمي لأول مرة أن أوافق لأنها أوشكت على الموت و لن يبقى معي أحد، قالت ذلك و هي تبكي و تطلب مني الصفح لأنها سبب عنوستي و تعاستي، ضممتها إلى صدري و قبلتها.. و رفضت العريس.
كانت جارتي خديجة تقول عني دوما "مسكينة" و كانت هذه الكلمة تؤلمني، زرتها ذات صباح فوجدتها غارقة في دموعها و بجانب عينها كدمة بنفسجية اللون، أخذت تشكو إلي قسوة زوجها و عنفه الذي أعياها، قلت لها مبتسمة من منا المسكينة الآن؟ فبكت و أقسمت أني أوفر حظا منها لأني لم أتزوج.
تغمرني محبة الناس من حولي فأنسى أني وحيدة، أشعر بالحرمان من ضمة رجل حنون و من كلمة "ماما" فأتذكر حال خديجة و أقول الحمد لله على كل حال، أقبل شفقة الناس و نظرتهم البائسة لي، لكن لا أقبل أبدا أن يذكر أحدهم أمي بسوء أو يحملها مسؤولية تعاستي. ما أحبني أحد مثلما فعلت و لا خاف علي بقدرها رغم كل شيء.
أنا اليوم الخالة رحمة لكل من يعرفني، لكن الطفلة رحمة مازالت تلعب و تجري بداخلي، أنا عذراء تعيش طفولتها مرتين و لست عانسا، هذا فقط ما أحسه لولا شفقتكم التي تؤلمني.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع