كنت أجلس على كرسي خشبي بمفردي في غرفة بالطابق الأخير من عمارة شاهقة، أسمع أصواتا وهمهمات خلف أبواب الغرف الأخرى، فجأة شعرت باهتزاز الكرسي من تحتي ودوار خفيف وكأن موجة حملتني وهدهدتني، وقبل أن أستوعب ما الذي يحدث سمعت ضجيجا قادما من كل الاتجاهات، صراخ وعويل وارتطام أجسام بالأسطح والجدران، ازداد تدحرجي بالكرسي فهممت واقفة واتجهت إلى الكولوار، وإذ بالأبواب تفتح على مصراعيها والناس تهرول في اتجاه المصعد والباب الرئيسي، يتدافعون ويصرخون، جريت إلى النافذة أطل منها لعلي أفهم ما الذي يحدث، رأيت أبواب العمارات المقابلة تلفظ الناس إلى الشارع في هرج وهلع، فتيقنت أن الأمر جلل، وأنه يحدث بالحي كله وربما بالعالم.
استجمعت قوتي وجريت عكس التيار البشري المتدفق متجهة إلى قسم النظافة بغرفة الانتظار التي كنت أجلس فيها، دخلت مسرعة وفتحت باب المرحاض الأول، رأيتني، نعم رأيتني رضيعة في شهري الأول عارية تماما متكومة بالزاوية، أبكي وأصرخ بقوة مغمضة العينين محمرة الوجه تختلط دموعي بمخاط أنفي، ويداي ورجلاي تتحرك وتمتدّ في الفراغ محاولة التشبث بشيء/أحد ما، أفزعني هول ما رأيت فأغلقت الباب وفتحت الباب الذي يليه، رأيتني طفلة في العاشرة من عمري، أرتدي بلوزة مزركشة تمتد إلى أسفل الركبيتين، شعري مقصوص كما الأولاد، أقف بالزاوية ويداي منسدلتان أنظر إليّ بعينين متوسلتين والدمع ينسكب منهما وفمي مطبق لا أصدر أي صوت، أغلقت الباب بقوة وفتحت الباب الذي يليه، رأيتني شابة في العشرين أقف في الركن مرتدية سروال جينز أزرق وقميصا أبيض وشعري ينزل إلى كتفي، كانت ملامحي شاحبة وصارمة وكأني أنظر إلى قاتلي بكبرياء لا يحتمل التوسل، كانت الأرض من تحت قدمي تزداد اضطرابا وأنا أقاوم السقوط وأمسك بالباب والحائط حتى لا أتدحرج، والصراخ والضجيج مستمر خلفي، أغلقت الباب على الشابة العشرينية الصامدة هناك رغم الخوف المنفلت من عينيها وفتحت الباب الأخير، كنت أقف بالزاوية، أشبهني وكأن مرآة تعكسني، لكن لم تكن ثمة مرآة ولا أي حاجز بيني وبيني.. نظرت إليّ بإحساس متبادل من الذهول والخوف المتفجر من (عيوني الأربعة) وتسمرت في مكاني متشبثة بالحائط المتصدع، وفي لحظة انهار كل شيء.
الاثنين 8 يونيو 2020 . الدار البيضاء
الاثنين 8 يونيو 2020 . الدار البيضاء