ـ سوف أكسر أنفه!
ـ هل جننت؟؟
ـ ههه يا حمقاء، أقصد أنني سأجعله يتعلم كيف يكون متواضعا!
ـ و ما أدراك أنه ليس كذلك؟ حتى إنه لم يتحدث إليك يوما!
ـ ها أنت قلتها، هو لا يكلم أحدا منذ أن انتقل للسكن هنا!
ـ و لمَ تهتمين لأمره؟
ـ أنا لا أهتم طبعا .. أريد فقط أن أرد اعتباري!
وانطلقت يا ريحانة تجرين و تضحكين خجلا و خصلات شعرك تسابق الريح..
و عرفت بعدها أن سر اهتمامك بالغريب لم يكن ردا للاعتبار، بل كانت تلك بذرة الحب الأولى التي زرعها في قلبك الصغير بنظرة خاطفة ذات صدفة، تلك التي تكون دوما خير من ألف موعد... عرفت أيضا أن الغريب الوسيم لم يكن متكبرا، و إنما كان خجولا، فصارت النظرات لغتكما و لغزكما...
بكيت مثلما لم تبك فتاة قبلك، يوم علمت برحيله المفاجئ عن الحي، أما البذرة في قلبك فقد صارت شجرة عريقة ظللتك كل هذه السنين، و ها أنت تتحسسين نبضها بيدك المنهكة الآن، و تبتسمين.
" ـ أرجوك يا دكتور افعل شيئا! إن ما تقوله مستحيل! ... ابنتي الصغيرة! ... ريحانتي!... مزال ما شافت ما تشوفت!... أرجوك يا دكتور!.. أرجوك!.. أرجوك!.." يصلك نحيب أمك الشجي من مكان بعيد جدا، و كأنك غارقة في بئر سحيقة، و أنت جامدة على السرير يكبل جسدك أخطبوط من الأنابيب، تنزل من عينيك المغمضتين دمعتان رقراقتان تسريان دافئتين من تحت أذنيك و تنفذان إلى المخدة.
ها هما نفس الدمعتين الآن، تتخذان نفس المنحى، محدثتين دغدغة لذيذة تحت شحمتي أذنيك... كل ذرة من جسدك العليل تغيرت يا ريحانة إلا هاتين الدمعتين.
"ـ أبشري يا ريحانة، لقد ظهر الرمان أخيرا في السوق .. و قد جلبنا لك منه الكثير.. " هكذا تبشرك أختك الصغرى حنان، ليبدأ طقسك اليومي المفضل لديك ؛ تجلس حنان إلى جانبك على السرير، تقرأ لك تتمة آخر رواية اخترتها و هي تناولك حبات الرمان من حين لآخر... تتحسسين الآن ضربات قلبك المتعب، و تتمنين لو أسعفك سويعات فقط لتحظي بلحظة كتلك، للمرة الأخيرة.
ترى هل يعلم الناس يا ريحانة، أننا نهتم بتلك التفاصيل الصغيرة، عند اللحظة الأخيرة؟
الرمان، رواية عزازيل، صديقاتك في الكلية، قطة الجيران التي تتسلل إليك من الشرفة، أصص الورد في الحديقة، ابتسامة الغريب، مذكرتك الوردية، مصحفك و سجادتك، رائحة الأرض بعد هطول المطر، معطفك و مظلتك ...
ـ ريحانة! إنها تمطر في الخارج يا ريحانة... دقائق و تجدينني بجانبك.
يصلك الصوت هذه المرة قريبا جدا، من خارج ذاكرتك، تنتبهين أنها حنان، تناديك من المطبخ.
"ـ نعم يا حنان، إنها تمطر هنا أيضا ... بداخلي." هكذا تهمس روحك بتثاقل، و شفتيك مطبقتين.
يتسلل رذاذ المطر من نافذة الشرفة المواربة، ورائحة الأرض تفوح زكية وكأنها أم تعطرت لاستقبال ابنها المغترب بين أحضانها، يعم الغرفة سكون تام و برودة شديدة، بينما تصل العصافير المبللة تباعا تنشُد الدفء تحت سقيفة الشرفة وتنشِد لحنا حزينا :
سلامٌ
وروحٌ
وريحانٌ
على روحك
يا ريحــــــــانة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع