مستلقيا على سريري كنت، أنظر إلى سقف الغرفة في وجوم، تناهى إلى سمعي وقع خطوات وهمهمات بالبهو، ألصقت أذني على الجدار علّني أسكتشف سر هذه الحركة التي تغتصب سكون قيلولتنا الإجبارية.. أتاني صوت المشرفة حادّا كما ألفته، مرفقا بطقطقات كعبها العالي الذي نعتبره عادة إنذارا بقدومها، كانت تتحدث إلى شخص ما، تبين لي بعدما تكلم بدوره أنه رجل، عندما سأكبر سيغدو صوتي قويا مثل صوته... بدأت خطواتهم تبتعد مواصلين الحديث والسير عبر الممر الذي يفصل بين الغرف مفضيا إلى الحديقة الخلفية للدار، قررت أن أتسلل إلى الخارج لأستطلع الأمر من دون أن يشعر بي بقية الأطفال النائمين...
الرجل يمسك بيمناه يد امرأة لم أسمع لها حسا قبل رؤيتها، والمشرفة تسبقهما بالدخول إلى الغرفة المخصصة للأطفال الرضّع. بعدما دخلوا ثلاثتهم، مشيت على أطراف أصابعي إلى أن وقفت خلف باب الغرفة الموارب، وضعت عيني على الثقب محاولا رصد المشهد بدقة. تنتقل المشرفة من رضيع إلى آخر فاسحة المجال للرجل و المرأة التي لا تزال لصيقة بيده، يبدو أنهما زوجان، عندما أكبر سأتزوج أنا أيضا..
كان الزوج يستمع إلى حديث المشرفة بإمعان كلما وقفا عند أحد الأسِرَّة، بينما المرأة ساكنة لا تتكلم أو تتحرك، فجأة التفتت إلى جهة الباب و ظلت شاردة، حينها فقط أتيحت لي فرصة التدقيق في وجهها، كانت ملامحها هادئة و جميلة، و نظرتها حزينة و دافئة، في عينيها بريق دمع متلألئ أحسست أنها تداريه بالتفاتها و تحاول جاهدة منعه من الانسياب، غمرتني عيناها بإحساس لذيذ، دافئ و حزين، لم يسبق لي أن شعرت بمثله، كل شيء فيها كان يشع بالحنان و ينضح بعاطفة جياشة، تمنيت لو أحضنها، و بدأ الدمع يتكتل بعينيّ أيضا..
أيقظني و إياها صوت زوجها و هو يناديها برفق:
ـ أحلام... أنظري إليها حبيبتي، إنها كالملاك، بيضاء كالثلج.. ما رأيك؟
كان يحمل بين يديه رضيعة تغطيها الثياب البيضاء، ولا يظهر منها إلا وجهها الصغير المدور، وضعها بين يدي "أحلام" و هو يبتسم منتظرا ردة فعلها، أخذتها بحنان و راحت تقربها إلى صدرها ووجهها كأنها تشمّها، أحسستُ أن ثمة عصفورا يرفرف داخل صدري وأنا أراقب حركات يديها، نزلت الدمعة التي أعيتها/ أعيتني مقاومتها، رفعت رأسها و نظرت إلى زوجها بابتسامة على شفتين ترتجفان، داخل صدري كان العصفور يرتجف، بانحناءة من رأسها أومأت إليه، فأحاطها بذراعه، ثم توجه إلى المشرفة:
ـ هل يمكن أن نأخذها اليوم؟
ـ لا طبعا، سيحتاج الأمر إلى توقيع بعض الأوراق، لن يأخذ ذلك أكثر من يومين أو ثلاثة، هيا بنا إلى مكتبي لأشرح لكم الأمر أكثر..
انتفضت في مكاني، تذكرت بسرعة أن وجودي هنا خرق لقانون المشرفة الصارم، جريت بخفة إلى الغرفة وأوصدت الباب ورائي بروية، تسللت إلى سريريي و العصفور بصدري لا يزال يرتجف، التحفت بالغطاء مثل باقي الأطفال مدعيا النوم، أغمضت عيني و رحت أعيد المشهد الذي عشته قبل قليل، أحسست بالأمان فحلّق العصفور عاليا في سماء صدري، وصار أكبر حلم لي أن أرى أحلام مرة أخرى.
*يمكن للقارئ أن يحذف واو المعية
2 التعليقات:
جميل ، كنت هنا.. لك تحياتي ..
لا يختلف اثنان أنك تمتلكين كل المؤهلات التي تجعلك قاصة بامتياز؛ حس مرهف، قلم مبدع، رؤية خاصة ترين منها الأشياء من حولنا في هذا العالم الشاسع..
دمت مبدعة..
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع