تعالت أصوات مليكة و فاطمة و هما تتبادلان وابلا من الشتائم بعد أن نشب خلاف بسيط بينهما، و هما الجارتان اللتان يجمعهما الجوار لأكثر من عشرين سنة في ظل قرية صغيرة.
اجتمع نسوة القرية و أطفالهن يتابعون سجال الجارتين، فإذا بمليكة تصرخ بأعلى صوتها:
ـ قولي ما شئت أيتها البئيسة، لكن إياك أن تذكري سر "الكانون" !
خارت قوى الجارتين و بدأت حدة صراخهما تقل شيئا فشيئا، ثم ما لبثت كل منهما أن توجهت إلى بيتها، لكن الفضول كان قد تمكن من نساء القرية المتابعات فهرعن إلى فاطمة يسألنها عن سر "الكانون" . إذ لابد أن يحظين بجواب و إلا فسيستعن بخيالهن الواسع لسيل من الإفتراضات !
أجابت فاطمة و هي تنظر شاردة إلى اللاشيء :
ـ هه ! تلك الثرثارة لا تحسن إلا الصراخ، مرة كانت تخبز العجين، و كعادتها خرجت لترصد أخبار الجيران، إلى أن تفحم الخبز في الفرن، فجعلت له حفرة إلى جانب "الكانون" و دفنته خوفا من غضب زوجها، و التجأت إلي فأعرتها خبزتين و كتمت سرها لكنها ناكرة للجميل . !
في المساء، و نفحات البرد القارس تضفي سكونا على القرية، كانت فاطمة جالسة أمام الفرن تخبز العجين مستأنسة بالدفء، كانت شاردة الذهن تكسر الأعواد و ترميها في الفرن فيرتفع لهيب النار إلى أعلى، رجعت بذاكرتها خمس سنوات إلى الوراء، تلك الليلة الممطرة التي تشهد نجومها على صراخ مليكة و هي تضع مولودا كان نتيجة حمل غير شرعي بعد عامين من وفاة زوجها العجوز، تذكرت فاطمة جيدا كيف تسللت وقت الثلث الأوسط من الليل من فراش زوجها تاركة أولادها يغوصون في نومهم العميق، و التحفت الظلام مسرعة لإغاثة مليكة التي أخبرتها في مساء نفس اليوم بسرها و عارها و بكت و ترجتها أن تكون لها سندا و عونا، تذكرت كيف ساعدتها على الوضع و كيف كتمت الأم أنفاس جنينها ليتحول إلى قطعة لحم لا حراك لها و فاطمة تنظر إليها بذعر، و كيف بكت بحرقة و دمعاتها تتسابق مع قطرات المطر و هي تكنس تراب الحفرة العميقة قرب الكانون... دفنت فاطمة سر مليكة و عادت تتسلل إلى حضن زوجها و هي ترتعش خوفا و بردا و قهرا.
ـ أمي أنا جائع، ألم تنتهي بعد ؟
كانت أعواد الفرن قد تحولت إلى رماد، مسحت فاطمة دموعها و كظمت شهقتها و رفعت يديها إلى السماء : يــــا رب اغفر لها و لي .
"الكانون": التنور
23 التعليقات:
سر الكانون .
مؤلمة جـــداً
نادراً ماتخبئ الأسرار في هذا الزمن ..
وإن ظلت مدفووونة لزمن طويل فبعد اي خلاف تبدأ جميع الاطراف بكشف المستوور ..
لكي ألف تحية ولقلمكِ الرائع .. أسلوبكِ راق لي وبشدة ..
كوني بخير
أحلى تحية لأحلى عبير
كانت إطلالتك المشرقة اليوم مناسبة لأتعرف على مدونتك الرائعة لأول مرة
حياك الله و بورك قلمك و دمت بالقرب عزيزتي
اولا عودة ميمونةاختي حنان
قصة جميلة ومعبرة
تنقل صورة من صور المعيش اليومي بالبادية...
كثيرا ما يسدي الانسان لإنسان أخر معروفا مرة او اكثر لكن الآخر ينكر الجميل ...كما في هذه الحالة
و قد افسدت الحبكة على فاطمة جميلها إذ جعلتها شريكة في الجريمة...
تحياتي
رائعة و معبرة ..
ويبقى "سر الكانون" صامدا حتى في لحظات الغضب والخلافات .....
على سلامتك ،، وعلى سلامة وحي الألهام الذي طالت غيبته ...دائما مبدعة وستبقين مبدعة ..
تحياتي أولتما حنان ،،
..
و تقبلي مروري ..
(الراعي بوتوالين)
قصة جميلة البناء والتصوير ومحكمة النسيج.
أعجبتني طريقة الانتقال بين فقرات النص وأحداثه.
بقي السر مدفونا حتى في لحظة الغضب ..
قصة رائعة جدا جدا ..
بارك الله في قلمكِ أخيتي وفي كلماتكِ ..
تحياتي،، أختكِ "طالبة علم"
http://www.mosabaqat.co.cc/2012/11/blog-post.html
مبروك المركز الثالث :)
مليون مبروووووووك حبيبتى
قلم راقى وفكر عميق
تحياتى
الف الف مليون مبروك
ومن نجاح لنجاح
زيارتي الاولي
وان شاء الله زيارات علي طول:)
شكرا أستاذي أبو عز الدين و أرجو فعلا أن تكون هذه عودة حقيقية للكتابة بعد غياب لم يكن يسرني
تحياتي الخالصة
و لك أصدق تحية أخي أمكسا بوتوالين شكرا
رأيك يهمني جدا أستاذي عبد العاطي
شكرا لك وتقبل تحياتي
وبارك فيك و في صحبتك الطيبة أختي طالبة علم :)
الله يبارك فيك غاليتي ليلى و مبروك لك أيضا
شكرا لك و بالتوفيق إن شاء الله
نحن بحاجة ماسة للقصة القصيرة خاصة تلك التي تحمل المعاني العظيمة والفوائد الجسيمة تحياتي اختي حنان...سيف الدين
الله يبارك فيك أختي شمس النهار و شرف لي تواجد إشراقتك بين حروفي :)
مبرووووووووووووك لك الفوز في مسابقة احسن قصة قصيرة
ارجو ان يكون حافزا لك على العطاء أكثر
مزيدا من التالق
تحياتي
بسم الله وبعد
طبعا بإسمي وبإسم أحلام نبارك لك هذا الفوز وإلى الامام دوما
وفقك الله لكل خير
تحياتنا واحترامنا وتقديرنا لك أختنا في الله
http://alrantisi.co.cc
http://islamic-family.co.cc
بارك الله فيك أستاذي محمد أبو عز الدين شكرا جزيلا
بارك الله فيكم أسرة الرنتيسي، أستاذ مازن و أختي أحلام ، أشكركم بدوري على هذه المبادرة الرائعة جعلها الله في ميزان حسناتكم . آمين
قصة رائعة و طريقة طرح مميزة :)
استحضرتُ و أنا أقرأ قصة سر الكانون، حديثاً في الغضبب للرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال 'إذا غضب أحدكم فليسكت' .. و الحديث به عبر كثيرة
أدامكِ الله قلمـاً مميزاً
كنتُ هنا
صديقكِ محمد :)
صلى الله عليه وسلم
و أدامك الله صديقا وفيا أخي محمد السقري
أسعدني مرورك :)
مؤلمة
بكل تفاصيلها
وفقك الله وسعيدة
بتعرفي على مدونتك
جميلة صوتا وكتابة، وكتابةً أجمل 😊
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع