نزلت من الحافلة متوجسة، معتمدة على حدسي الذي خذلني.
ـ هذه هي شجيرات النخيل المتراصة و تلك هي المساحة الخضراء في الجانب الآخر من الشارع لكن أين البناء الكبير المحاط بسور أحمر ؟ يبدو أنني ضللت الطريق ... سأتقدم على طول الشارع حتى أجد ذلك البناء فهو حتما لا يزال أمامي، لأنني لم أخلفه ورائي و قد مسحت بعيني كل المسافة التي عبرتها، إن فشلت سأعبر إلى الجهة الأخرى لأنتظر الحافلة و أعود أدراجي ...
هكذا عزمت و انطلقت، حقيبتي على ظهري، و يداي في جيبي سترتي الرياضية، و عيني في الأفق أتطلع إلى آخر نقطة من هذا الشارع الطويل العريض، بعض من خوف كان يدغدغ قلبي الصغير لكن كثيرا من التحدي كان يهزمه.
لا أثر لأي مخلوق هنا، لا أسمع سوى وقع خطواتي على الرصيف، و خشخشات مسلية لأوراق الأشجار، و من حين لآخر صوت هادئ لسيارة فخمة تمر مسرعة بجانبي. لا ضجيج هنا و لا أزبال، إنه عالم صافي صامت تماما، لا أطفال يلعبون الكرة في الأزقة، الفيلات شاسعة المساحة، محاطة بأسوار تعلوها الخضرة كأميرات مصطفة في بروج محصنة، تفصل بينها شوارع معبدة نقية و خالية إلا من بعض العصافير، حتى العصافير هنا مهذبة و بورجوازية لا تكثر من الزقزقة بغير ضابط ... أي عالم هذا ؟ لماذا كانوا يكذبون علي و يقولون أن السعادة في الفقر؟ إني لم أرها قط إلا الآن ترقد هنا في سلام ...
قاطع شرودي صوت أحدهم، انتبهت فزعة لأجد أنه حارس إحدى الفيلات، كان الصوت يصلني من مكان قريب جدا فقد مررت من أمامه و لم أنتبه ..
ـ آ الزين! آجي فين غاديا بوحدك، آجي نونسك
انقبض قلبي و أنا أحث خطاي لأبتعد عنه و قد جف ريقي خوفا .. "في أسوإ الأحوال إن تبعني و حاول الإمساك بي سأتوسط الشارع أو أوقف إحدى السيارات" هكذا بدأت تتخبط أفكاري و أنا أهرول إلى أن تلاشى صوته عن سمعي لأكتشف أنه مقيد بالمكان الذي يحرسه فلم يتجاوزه، ضحكت بسخرية مني و منه، لكن الخوف ظل يرافقني و لم تعد لدي نفس الثقة التي بدأت بها مسيرتي.
توقفت للحظة بعد أن قطعت مسافة طويلة و قررت أن أعود فلا جدوى مما أنا مقدمة عليه، لكن شيئا ما بداخلي أصر على أن أتجاوز مسجدا لاح لناظري في نقطة بعيدة من الجهة الأخرى للشارع فإن لم أجد مكاني المنشود عدت ... المسجد دائما يشعرني بالأمان حتى و هو محاط بهذا الصمت، أتممت سيري و العصافير وحدها تؤنسني ... لماذا لم أشتر هاتفا نقالا حتى الآن ؟ كان سيسهل علي التواصل مع أختي التي لم تجد مكانا تعمل به إلا هذا، أ لا يشعرها وجودها بين هؤلاء الأغنياء جدا بالحسد و الاحتقار، أي عقل طائش هذا الذي جعلني أفكر في زيارتها بشكل مفاجئ ؟ دائما كانت تقول أمي أنني صلبة الرأس و لا أكترث للعواقب، أختي تعمل حاضنة لطفلة صغيرة لأسرة لا يتجاوز أفرادها أربعة يسكنون في فيلا يمرح الخيل في بهوها إن شاء، هذه الفيلا تجاور مركبا رياضيا شاسعا محاطا بسور أحمر تزينه من الخارج شجيرات نخيل متراصة و تواجهه في الجهة الأخرى للشارع مساحة خضراء متنوعة الأشجار و الزهور، هكذا كانت أختي تصف و أنا أدون في ذاكرتي لكنني لحد الآن لم أبلغ البناء اللعين.
لقد تجاوزت المسجد و ها أنا أعود بخفي حنين، لا مجال للمزيد من المغامرة سأعبر الشارع عندما أبلغ موقف الحافلة لأحمل معي فشلي و أعود من حيث أتيت...
مرة أخرى يقاطع أحدهم شرودي، لكنه هذه المرة كان شابا وسيما و لطيفا، كان واقفا أمام دكان يقابل المسجد، مررت به و أنا ذاهبة و ها هو يستوقفني في الإياب مستنتجا أنني تائهة، أو أبحث عن شخص أو مكان ما، سألني بكل لطف فأخبرته عن وجهتي، ابتسم و قال لي أنني رجعت من أقرب نقطة إلى المركب و أنه بعد كل المسافة التي قطعتها مشيا لم يكن يفصلني عن وجهتي سوى أمتار قليلة، اقترح علي أن يرافقني فوافقت على الفور، مشينا جنبا إلى جنب، سألني من أين أتيت و ماذا أدرس و أسئلة كثيرة جدا، أجيب بكل عفوية و كأنني أعرفه منذ زمن سحيق، كان بشوشا جميل الإبتسامة و يتكلم بلا توقف، كان المكان خاليا و مغريا لكنه كان يحمل قلب ملاك فحتى اسمي لم يسألني عنه ..باختصار لم يكن الشيطان ثالثنا، أحسست بالأمان و لم أعرف كيف قطعنا تلك المسافة إلا و هو يقف و يشير بأصبعه إلى باب كبير يتوسط سورا أبيض تعلوه خضرة الأشجار و يطل على آخر أحمر :
ـ تلك هي الفيلا حسب نعتك و ذاك هو المركب، سأنتظرك هنا، إن وجدت أختك فأشيري إلي كي أرحل و إن لم تجديها فسأرافقك إلى أن تستقلي الحافلة.
لوحت له بكلتا يداي بعد أن عانقت أختي فرد التحية بيده و رحل .
مساء الأحد و أنا عائدة على متن الحافلة، كنت أجلس في المقعد الذي يلي السائق، ما إن اقتربنا من المسجد و الدكان حتى توجهت بكليتي إلى هذا الأخير لعلني أرى الملاك المبتسم، كان هناك واقفا في نفس المكان، انتبه إلي فابتسم و ابتسمت، جمع أصابع يده اليمنى كوردة و حركها بشكل دائري في اشارة إلى : هل أنت على ما يرام ؟، وضعت يدي على أعلى صدري و بشبه انحناءة من رأسي كان الجواب : أنا بخير، أنا ممتنة و شاكرة ...
زرت أختي مرات كثيرة فيما بعد ، و بقيت نظرتي وفية للدكان لكن لم أره مرة أخرى أبدا ..
19 التعليقات:
جميلة جدا يا حنان
هنالك من ينحتون مرورهم في لحظة عابرة في حياتنا غلى الأبد
أعجبتني حمولة النص من الصور خصوصا سجن المكان الذي قيّد العساس
كنت هنا و استمتعت
كلمات أعتز بها من صديقة أعرف أن لها من الذوق أعذبه
ممتنة لك يا أميرة الأطلس، شكرا سنائي :)
حلوة خالص ، المجد للعابرين فى صمت ، الناس اللى مش بيعملوا دوشة فى حياتك لكن بيسعدوك ، جميلة يا حنان سلم قلمك .
هنا سرد ممتع بتفاصيل آخاذة، تشد القارئ ليعرف ما الذي يخفيه النص في النهاية، تسلسل جميل، ووصف اعتمدت في بعض منه على الصورة، كأنك تنقلين الصورة للقارئ، وهذا أجمل ما أحبه في النصوص، لأن بهذا تجعلين القارئ يعيش ينفعل مع سردك. كما تمنحين بهذا حياة للنص سواء بشخصياته أو حتى بالتفاصيل التي تصفينها.
فكرة النص جيدة، خاصة هناك مقارنة بين الحارس الذي لم يكن مؤدبا، ولم يحترم الساردة، وبين الشاب الوسيم الواثق من نفسه ومن أخلاقه، الأول كان مقيدا بعمله، والثاني توفرت فيه كل الشروط الحرية والجمال والحيوية، والمحيط كذلك كان مساعدا، ومكان قد يعتبر خالٍ، لا أثر فيه للمارين، ومع ذلك كان خلوقا، محترما...
كم من الإحساس ترك هذا النص، احساس بالرقي الإنساني، وبالتآخي، والتقدير والاحترام، بصراحة هو عميق المعاني، بسيط السرد والتركيب والبناء،والعمق فيه أهم.
مودتي حنان
ليتني كنت ذاك الشباب :)
صديقي عمر أبو النصر
المجد للعابرين فى صمت
أعجبني تعليقك جدا، شكرا لك و مرحبا بك في مدونتي التي تشرفت بزيارتك
كل التحية لك و المحبة :)
دائماً ما نتناسى عمداً الخير أثناء الإحساس بالخطر. ثم بعد تخطينا تلك المرحلة نتوقف مأنبين أنفسنا ونتمنى حقاً لو بإستطاعتنا أن نعود لنعتذر.
أحسنت، رائعة هذه التحفة الفنية.
أستاذي رشيد أمديون
قراءة قاص محترف و ناقد فنان يصل إلى ما وراء العبارة، و يستخلص ما تخفيه الأحرف التي كتبت بعفوية ... لن أخفيك سرا أستاذي أن تعليقك جعلني أعيد قراءة القصة و أحببتها أكثر ..
بالنسبة لذلك الشاب فأنت مثله و أكثر لأنك واحد من أولائك الذين يعطون بلا مقابل، و جميلك علي محفوظ دوما و يكفي أنني لولاك و لولا تشجيعك لما كتبت حرفا هنا .... محبتي التي لا تنتهي
صديقي عمرو إسماعيل
نعم ، كثيرة هي اللحظات التي نتمنى لو أن الزمن يعود إليها كي نعيها بشكل أفضل
أهلا بك في مدونتي المتواضعة و شكرا لك على جميل مرورك
خصنا نجيو نقلبو على هاد المبارك والمسعود ما كان خاص غير فرس أبيض هههه سرد رائع كالعادة ..تحياتي الأستاذة حنان
للوصف جمال ومتعة تختلف عن باقي الانواع الاخرى للقصص فهو يأخد القارئ من عالمه و يجعله طرفا في القصة ..يجعله يرسم المشاهد و الصور الموصوفة في خياله فتشده الاحداث و يصبح عاجز عن ايقاف القراءة طلبا منه الى المزيد و المزيد.. و فضولا لمعرفة النهاية ..وصف في غاية الدقة و الجمال صديقتي الغاليتي ..
اما داك الغريب او الملاك كما احببتي تسميته فجماله و روعته تكمن في اختفاءه .. من يدري ربما لو تكرر اللقاء مرات ومرات لتشوشة الصورة و دخلها بعض السواد .. جمال بعض الاشياء في زوالها :)
للوصف جمال ومتعة تختلف عن باقي الانواع الاخرى للقصص فهو يأخد القارئ من عالمه و يجعله طرفا في القصة ..يجعله يرسم المشاهد و الصور الموصوفة في خياله فتشده الاحداث و يصبح عاجز عن ايقاف القراءة طلبا منه الى المزيد و المزيد.. و فضولا لمعرفة النهاية ..وصف في غاية الدقة و الجمال صديقتي الغاليتي ..
اما داك الغريب او الملاك كما احببتي تسميته فجماله و روعته تكمن في اختفاءه .. من يدري ربما لو تكرر اللقاء مرات ومرات لتشوشة الصورة و دخلها بعض السواد .. جمال بعض الاشياء في زوالها :)
ههههه مهاجر ... شكرا أخي على مرورك الجميل
مودتي الدائمة
جمال بعض الاشياء في زوالها .. أحسنت عزيزتي سعاد، الذكرى الطيبة أحيانا تكون أجمل بكثير من واقع قد يتسلل إليه ما لا تحمد عقباه
شكرا بحجم السماء غاليتي ... كوني بالقرب دائما
جبتنى القصة جدا كحالة مركبة كما اعتدت منك ذلك .. الحالات المركبة تعكس عن نضج التجربة الحياتية للقاصة وتعكس ان لها رؤية فى الحياة يجب احترامها ... (لا أسمع سوى وقع خطواتي على الرصيف، و خشخشات مسلية لأوراق الأشجار، و من حين لآخر صوت هادئ لسيارة فخمة تمر مسرعة بجانبي. لا ضجيج هنا و لا أزبال، إنه عالم صافي صامت تماما، لا أطفال يلعبون الكرة في الأزقة، الفيلات شاسعات المساحة، محاطات بأسوار تعلوها الخضرة كأميرات مصطفات في بروج محصنة، تفصل بينها شوارع معبدة نقية و خالية إلا من بعض العصافير، حتى العصافير هنا مهذبة و بورجوازية لا تكثر من الزقزقة بغير ضابط ... أي عالم هذا ؟ لماذا كانوا يكذبون علي و يقولون أن السعادة في الفقر؟ إني لم أرها قط إلا الآن ترقد هنا في سلام ...) هذا المقطع مفصلى فى القصة .. احاول ان اربط التفاصيل ببعضها لاخرج بالفكرة المركبة التى اتكلم عنها .. هناك اسرة فقيرة تعمل احدى بناتها عند اسرة برجوازية .. هؤلاء الاشخاص هم جسور بين الطبقات المختلفة .. ذلك الحارس الشره لتكوين علاقة ربما تكون جسدية او ربما خوف البطلة من عالم لازالت تكتشف تفاصيله .. وهذا الكائن الرقيق من اى طبقة اجتماعية هو ؟؟؟؟؟ .. تحاول القصة ان تطرح فكرة عدم الاقصاء فالانسان هو الانسان والاخلاقيات لا تستاثر بها طبقة دون طبقة .. والصدفة التى تمر بحياتنا وتجمعنا مع بشر اشبه بالاحلام ... اعجبنى فى القصة الوصف الرائع والصور المبدعة وهى كثيرة جدا على الرغم انها ربما تكون الى حد ما زادت عن الحاجة ولم اقل انها الى حد بعيد لان الوصف للعالم المجهول للبطلة ضرورى جدا لتوصيل الفكرة .. بصراحة القصة تحتاج الى تكثيف اكثر .. ربما اسلوب السرد جاء تقليدي الى حد كبير وكاننى اقرأ قصة للجيل الاول لكتاب القصة القصيرة .. شكرا حنان على هذا العمل الجميل
ahmed said hamed
اعجبتنى القصة جدا كحالة مركبة كما اعتدت منك ذلك .. الحالات المركبة تعكس عن نضج التجربة الحياتية للقاصة وتعكس ان لها رؤية فى الحياة يجب احترامها ... (لا أسمع سوى وقع خطواتي على الرصيف، و خشخشات مسلية لأوراق الأشجار، و من حين لآخر صوت هادئ لسيارة فخمة تمر مسرعة بجانبي. لا ضجيج هنا و لا أزبال، إنه عالم صافي صامت تماما، لا أطفال يلعبون الكرة في الأزقة، الفيلات شاسعات المساحة، محاطات بأسوار تعلوها الخضرة كأميرات مصطفات في بروج محصنة، تفصل بينها شوارع معبدة نقية و خالية إلا من بعض العصافير، حتى العصافير هنا مهذبة و بورجوازية لا تكثر من الزقزقة بغير ضابط ... أي عالم هذا ؟ لماذا كانوا يكذبون علي و يقولون أن السعادة في الفقر؟ إني لم أرها قط إلا الآن ترقد هنا في سلام ...) هذا المقطع مفصلى فى القصة .. احاول ان اربط التفاصيل ببعضها لاخرج بالفكرة المركبة التى اتكلم عنها .. هناك اسرة فقيرة تعمل احدى بناتها عند اسرة برجوازية .. هؤلاء الاشخاص هم جسور بين الطبقات المختلفة .. ذلك الحارس الشره لتكوين علاقة ربما تكون جسدية او ربما خوف البطلة من عالم لازالت تكتشف تفاصيله .. وهذا الكائن الرقيق من اى طبقة اجتماعية هو ؟؟؟؟؟ .. تحاول القصة ان تطرح فكرة عدم الاقصاء فالانسان هو الانسان والاخلاقيات لا تستاثر بها طبقة دون طبقة .. والصدفة التى تمر بحياتنا وتجمعنا مع بشر اشبه بالاحلام ... اعجبنى فى القصة الوصف الرائع والصور المبدعة وهى كثيرة جدا على الرغم انها ربما تكون الى حد ما زادت عن الحاجة ولم اقل انها الى حد بعيد لان الوصف للعالم المجهول للبطلة ضرورى جدا لتوصيل الفكرة .. بصراحة القصة تحتاج الى تكثيف اكثر .. ربما اسلوب السرد جاء تقليدي الى حد كبير رغم انه ممتع وكاننى اقرأ قصة للجيل الاول لكتاب القصة القصيرة .. شكرا حنان على هذا العمل الجميل
السلام عليكم
تجربة قاسية ورائعة في آن واحد
الحمد لله مهما بلغت الانانية والطيش لا يزال هناك اناس طيبون و الحمد لله انك صادفت واحدا منهم بحدس منك و الا فالعاقبة تكون وخيمة في حالات كثيرة مثل هذه و خاصة في المدن ....
و لو انك ذكرت لون بشرته لحددت لك هويته ههه.
تحياتي
فتاة ذهبت لزيارة أختها التي تعمل عند إحدى الأسر الغنية . تاهت قليلا ثم وجدت مكان أختها ...
وصفتي لنا ما سبق بكل ما في الروعة من معنى، عرضتِ لنا مشهدا متحركا ( صوتا وصورة ومعنى عميق ) ..
لك تحياتي ..
جميل ..
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع