جلست القرفصاء تحت شجرة بمحطة القطار، حقيبتي على ظهري تكبرني حجما فأبدو كالخنفساء مكومة تحت ثقلها، لا أحب الجلوس هناك على تلك الكراسي المصطفة معلنة انتظاري كما الجميع، لا أحب عادة كل ما هو تقليدي .
"نافذة على الداخل" كانت رفيقتي في سفري المفاجئ هذا، يقول سي أحمد بوزفور: "من هو هذا الذي قال (الإنسان حيوان اجتماعي)؟ كان ينبغي أن يزيد كلمة للأسف. الإنسان حيوان اجتماعي للأسف، لأن عليك أن تحاذر أشياء كثيرة و أنت تعيش وسط الناس، عليك أن تراعي حساسياتهم ..." إلى أن يقول : "و تصبر و تتصبر و تصابر حتى تخلص أخيرا إلى وحشتك العزيزة. " لكنني اليوم أجدني هاربة من وحشتي العزيزة إلى وسط الناس فالحياة غالبا هي أكبر مما يحيط بنا، هي تلك الأشياء التي تحدث في زمن و مكان ما بعيدا عنا. الطريق هذا المساء كانت طويلة جدا و عسيرة، وصلت و دمعي يسبقني، سمعت البكاء من بعيد قبل أن أرى وجوههم، كانت أختي هي أول من استقبلتني، ارتميت بين ذراعيها و ضمتني بقوة و هي تبكي بكاء حنونا و صوتها يتسرب إلى أذني صافيا لا يكدره شيء، مات عمي محمد يا حنان .. مات عمي محمد يا حنان .. حاول كل من حولنا أن يفصلوني عنها أو يفصلوها عني لكن بلا جدوى، بكت بحرقة و كأنها للتو سمعت بالخبر و بكيت و كأنني أنا من حضرت لوداعه ليلة أمس .. مات عمي محمد يا حنان .. مات عمي محمد يا حنان ..
هل يبكي الباكون ألما لفراق أحبتهم فقط ؟
البكاء نعمة عظيمة و العزاء مناسبة لغسل القلوب من أدرانها و أضغانها، الموت عبرة و الفراق ألم يعزز الرباط بين الأحبة، فلا شيء أكبر من الحزن يجمع شتات القلوب المكلومة، هنا الكل يبكي ظاهرا فراق عمي محمد لكنهم يبكون أنفسهم و أحزانهم في بواطنهم، يبكون خيباتهم و أشواقهم، يبكون كل تلك اللحظات التي ظلت غصة في حلقهم، يبكون آلاما خفية و جروحا لم تندمل على مر السنين.
بكيت في حضن كل من تقدم للسلام علي، كنت أبكي شوقي و غربتي و موتي المحتوم و زادي المنعدم و قلبي المتعلق بالسراب ... في حضن أمي صار بكائي دافئا كملمس ثوبها الناعم، صار دمعي شلالا باردا تغتسل فيه أشواقي، صارت روحي أخف من ريشة طائر فهدأت نفسي أخيرا .
رحم الله عمي محمد، و بارك في حفيده الذي لم يكمل بعد الثلاثة أشهر في رحم أختي ... هي هكذا دنيا تنتقل بين الأرواح فطوبى لمن اعتبر.
2 التعليقات:
السلام عليكم
أولا تغمد الله الفقيد بواسع رحمته و ألهمكم الصبر والسلوان...و ليس بعد مصيبة الموت غير الصبر
أترت ملاحظات كثيرة لكن اكتفي بالتأكيد على واحدة و هي انشغال الجميع و جريه وراء ملذات الحياة و انتظار العزاء فرصة للقاء الأحبة في عصرنا هذا للاسف....
تحياتي
صدقت أستاذي محمد
بارك الله فيك و أكرمك
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع