""
صباح الخير صغيرتي
أنا اليوم سعيدٌ جدا، نعم، سعيد لدرجة تجعلني أبتسم وحدي تماما كأي أبله لطيف، أبتسمُ أخيرا بعدما اعتقدت لفترة طويلة أنني لن أبتسم مجددا، حتى إن عضلات وجهي لا تكاد تطاوعني و أنا أحاول أن أرسم بها ملامح فرحتي كالآخرين.. الآخرين؟ هل أعرف أنا أيضا "آخرين"؟.. لا عليك، المهم أن أكتُب لك الآن وأبتسم...
آه فقط لو تعلمين كم كلفتني هذه الجرأة؟ طبعا لن تصدقي أنني بذلت جهدا كبيرا كي أقنع نفسي بالجلوس للكتابة إليك... لا بأس، و لا علينا من ذلك كله، المهم أنني الآن حر طليق أخط هذه الحروف بشهية كنحلة تتنقل بين الأزهار الجميلة توزع عليها القبلات بحب عارم. اليوم مرت سنة بالتمام و الكمال على أول يوم اكتشفتك فيه، فلا تستغربي إذن مدى سعادتي و أنا أحتفل بعيد مولدي الأول، سنتي الأولى في الحياة بعد أربعين سنة من لا شيء...
أيا نافذتي الوحيدة على العالم.
يا كل العالم.
أنت الآن نائمة كالملاك، تسبحين في أحلامك الوردية، أمّا أنا، فحسبي أن أعد أنفاسك مع كل حرف أخطه.. هكذا أجدني أملأ سبورة الليل بكلماتي هذه بلا كلل أو هوادة. يمتد الليل وييأسُ النوم وتخمد الكائنات، وحدي أبقى مُستيقظاً لأملأ صمت الظلام بجنوني، سأظل أكتب حتى مطلع ستائر نافذتك، وشروق محياك الجميل لينفض عني بنوره تعب أرق لياليَّ.
كان يوما مستعملا كباقي أيامي الرتيبة عندما استطاع أخي أخيرا أن يقنعني بتغيير موضع سريري ليواجه شرفة غرفتي/سجني، شريطة أن تظل الستارة مسدلة كي لا ينتبه لوجودي أحد من الجيران، فيما أكتفي أنا برؤية ما بالخارج مزركشا بالأزهار المطروزة على ثوب الستارة بعناية، و كثيرا ما كنت أحصر نظرتي في فضاء هذه الزهور لأخلق منها عوالم أتجول فيها كما أشاء إلى أن يداعب النوم جفني ـ و قليلا ما يفعل ـ فأستسلم إليه سعيدا منتشيا كما تستسلم المرأة الوحيدة لزوجها الجندي في أولى ليالي عطلته.
كنت شاردا أتفحص البنايات و الأسطح و رقعة السماء الصغيرة التي تسمح بها مساحة النافذة و كل ما وقعت عليه عيناي، إلى أن انفتحت نافذة زرقاء تقابلني مباشرة أطل منها وجهك المدور كبدر ليلة اكتماله، بدوت كالفراشة بثوبك الأبيض الحريري و أنت تطردين النوم من عينيك بحركة الطفلة ذات السنتين، شعرك المنساب يهزه ذلك النسيم الصباحي في تموج ساحر أخذني من سريري و حلق بي عاليا جدا، كنت صرختي الأولى في الحياة التي بدأ نبضها بإطلالتك، ثم صرت أنت حياتي بكل حركاتك و سكناتك، صرت أعرف عاداتك و طباعك، أعرف ألوانك المفضلة و دماك، متى ما ابتسمت أبتسم و متى ما حزنت أحزن، في ليلة رأيتك تبكين فكانت المرة الأولى التي تمنيت فيها أن أتخلص من عجزي و لو لساعتين أزورك فيها و أضمك و أمسح دمع عينيك الغاليتين، لكنني اكتفيت بأن ذرفت معك دموعي التي ظلت جامحة منذ فقدت كل شيء.
صغيرتي..
أشعر بروحي الآن خفيفة كريشة تحملها سحابة في السماء، أشعر أنني سأخرج أخيرا من هذا الجسد الذي طالما سَجنني، أشعر بسعادة عارمة كتلك التي يستشعرها العائد من المنفى، سأحلق أخيرا لأرى باقي السماء و كلي سرور بعمر عشته في سنة كنت فيها ليلي و نهاري، شمسي و قمري، أنت صديقتي التي لم أذهب بجانبها إلى الكلية، أنت زوجتي التي لم أحتفل معها بعيد زواجنا، أنت طفلتي التي لم ألد، أنت حياتي التي لم أعش ... فهل تكفيك مني كلمة شكرًا ؟
شكرا لأنك منحتني كل شيء، و شكرا لأنك ستقرئين هذه الكلمات التي لولا شعوري بثقل الواجب لما كتبتها لك.
أحبك صغيرتي
كوني كما أنت دائما.
""
أتممت الرسالة و قد تبللت بدمعي، جريت أدق بقوة على باب الجيران، سمعتُ شهقات الرجال المكتومة وصِوَاتَ النساء الذي كان يتعالى في الداخل ... ثم لم أشعر بشيء بعدها، إلى أن استيقظت على سريري و أمي بجانبي مغمضة العينين، تبدو عليها ملامح التعب و السهر ..
3 التعليقات:
لا أستطيع أن أقول غير أن هذا النص استطاع أن يسرد جملة من المشاعر الجياشة، وبقوة، واستطاعت الساردة أن تدخل إلى عمق شخصية النص، وتجسد احساسه، ومعاناته، وتلك التحولات النفسية التي يعيشها هذا العاجز، خاصة وأن العاجزين، أشد الناس احساسا بتفاصيل العالم حولهم، وهم أحوج الناس إلى أي بارقة أمل تغير من تفاصيل الحياة، وتغير نظرتهم للمحيط، وهذا ما تفوقت فيه حنان حين قالت: فيما أكتفي أنا برؤية ما بالخارج مزركشا بالأزهار المطروزة على ثوب الستارة بعناية، و كثيرا ما كنت أحصر نظرتي في فضاء هذه الزهور لأخلق منها عوالم أتجول فيها كما أشاء...
إن هذه الستارة المزركشة بالأزهار هي في الحقيقة نظرة إلى الوجود بنظرة مستعارة، لكنها بعثت الحياة في هذا الشخص.
غير أني لاحظت أمرا في غاية الأهمية وهو (الستارة ) هنا. إذ أن الستارة تستعمل لحجب الرؤية وحجب الضوء المتسلل، وحجم ما وراءها، لكنها هنا تتخذ وظيفة أخرى تعكس المألوف، لكون الستارة في القصة تفتح عوالما أخرى لهذا العاجز، هي نافذه التي يرى منها سعادته. هذه المفارقة جوهرية في النص، وكان العنوان في محله.
رائع ما كتبت حنان، وواصلي تفوقك
قراءة جعلتني أحب ما كتبت هنا أكثر فأكثر
لا عدمتك أستاذي و أخي الطيب رشيد
لماذا اغلب هذهي المدونات تشعرني انني المقصود
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع