في كل صباح، ترسلني أمي إلى دكان عمي العربي لأجلب الخبز الساخن و باقة النعناع، أمر على العم يحيى جالسا على الكرسي الخشبي أمام بيته العتيق، قابضا بكلتا يديه على أعلى عكازه المعقوف، شاردا يحدق في حديقة الحي الصغيرة في الجهة الأخرى من الزقاق بعينين ساكنتين مسمرتين، لا يلتفت أو يتحرك، أعبر أمامه متوجسة مسرعة الخطى، أتحاشى النظر في عينيه و أرمقه بنصف عين، فيتهيأ إلي و قد حمل عكازه و راح يجري خلفي ليضربني بقوة فأحث خطاي أكثر، ثم أجري من شدة خوفي و نبضات قلبي تتسارع، أتجاوزه بالقدر الذي يجعلني مطمئنة فأقف و أستدير لأجده ثابتا في مكانه غارقا في شروده، لم يحول عينيه من على الحديقة و كأنه يخشى أن يغفل عن مراقبة شيء ما. كثيرا ما كنت أقف لأنظر حيث ينظر، لأرى إن كان ثمة شيء مميز يشد انتباهه، لكنني لم أكن أجد سوى نفس الأشجار المعدودة و الكراسي الحديدية المتهالكة، و بعض أطفال الحي يتقافزون هنا و هناك ... أعود حاملة كيس الخبز في يد و باقة النعناع في اليد الأخرى محاولة لفت انتباهه و قد صارت حدة وجلي منه أقل، لكنه ثابت كما هو لا يتحرك.
أتحرر من قبضة أمي بعد وجبة الإفطار فأهرول إلى الحديقة لألعب مع رفيقاتي هناك، نجري و نمرح و عينا العم يحيى لم تفتأ تخترقنا ناظرة إلى اللاشيء .. شيئا فشيئا صار العم يحيى جزءا مهما من صباحاتي، أرقبه من وسط الحديقة حين يقف مستندا على عكازه، يحمل كرسيه الخشبي بتثاقل و يدخل بيته فلا أراه مجددا حتى صباح الغد.
ترى ما الذي يفعله العم يحيى في بيته بعد أن يغلق عليه الباب ؟ لعله يشاهد التلفزيون، أو يتحدث مع أبنائه و أحفاده في الهاتف، هم لا يزورونه إلا نادرا جدا، منذ توفيت زوجته و هو وحيد .. عندما كانت لا تزال هنا، كان يبتسم و يذهب إلى المقهى و يحضر من السوق قفة مليئة بالخضر و الفواكه، نجري إليه فيعطينا حبات التفاح أو قطعا من السكاكر، لكن بعد رحيلها لم يعد يفعل أي شيء غير الجلوس أمام عتبة الدار كل صباح إلى ما بعد الضحى ثم يغلق عليه باب البيت بقية النهار، أنا أعرف لما يجلس هناك دائما فهو ينتظرها، نعم لابد أنه ينتظر متى تأتي كي يبتسم و يذهب إلى السوق من جديد، لقد سمعت عمتي تقول لابنها ألا يبكي لأن والده ـ الذي قالت أمي أنه مات ـ سوف يعود من سفره الطويل يوما ما .. لكنه لم يعد قطُّ.
ذات صباح، و أنا عائدة من دكان عمي العربي، نظر إلي العم يحيى و ناداني بحركة من يده المرتعشة و هو يبتسم، لم أصدق، نظرت حولي فلم أجد سواي في الزقاق، أشعرتني ابتسامته ببعض الأمان فتقدمت إليه بخطى مترددة، ظل يبتسم حتى وقفت على مقربة منه، وضع يده على ظهري و ربت علي بحنو ثم مسح بيده على رأسي، أمسكني من معصم يدي التي تحمل باقة النعناع ثم أخذ منها بعض الوريقات و جعل يشمها، لم ينطق و لو بكلمة واحدة، ابتسمت له بحب و أمان ثم قطفت عدة عروش من الباقة و قدمتها إليه، قبلت ظاهر يده ثم جريت مسرورة إلى البيت و قد قطعت عهدا في نفسي أن أتقدم إليه كل صباح ابتداء من الغد لأعطيه من عروش النعناع و أقبل يده.
و في صباح الغد، كانوا جميعا هناك، أبي و أمي و الجيران و أبناء عمي يحيى و أحفاده، كلهم أمامي مجتمعون، لأول مرة أراهم كذلك .. إلا العم يحيى لم يكن هناك، وضعوا في مكان كرسيه عدة كراسي بيضاء ... و أنا لم ترسلني أمي إلى الدكان، ذهبت إلى الحديقة و جلست أنتظر متى يتفرق ذلك الجمع الغريب ليخرج العم يحيى إلى مكانه المعهود، قالت أمي أيضا أنه مات، لكنني أعرف أنه سيعود، ربما اشتاق إلى زوجته فسافر إليها لكنه سوف يعود، عمي يحيى سوف يعود، فأنا لم أعد أخافه، أنا أحبه و أفتقده، اليوم لم أشتر باقة النعناع لكنني غدا سوف أفعل لأجده في انتظاري ... هذا ما سيكون فلماذا أنا أبكي إذن؟ لماذا أبكي ؟
لبثتُ أنتظره أياما، شهورا ثم سنوات.. لكنه لم يعُد قطّ.. و لن يعود أبداً... أبداً
4 التعليقات:
مؤثرة جداً ...
وبإسلوبك الممتع الرائع كان لها وقع أقوى ..
لك تحياتي أختي حنان ..
اغرورقت عيناي بصراحة وخصوصا مقطع تكرارك ... بصراحة مؤثرة
جميلة قصتك يا حنان.. جميلة ...
حقا رائع سردتي القصه بذكاء والإبره هنا هيا الايمان بالقدر
إرسال تعليق
تعليقكم تشجيع